على الجزيرة المستحمة بشمس الجنوب، فن اليد المجردة سقط من السماء، وهذا يجعلني أخاف، لأن عليه أن لا ينطفئ.

من يريد أن يجعله يعيش وينتشر؟

أمام السماء الزرقاء، أنا ألتزم”.

هكذا تكلم المعلم فوناكوشي في قصيدة له عن فن الكاراتي الذي وهبه حياته كلها.

فما قصة الكاراتي وما هو معناها وكيف تمت تسميتها؟

تبدأ قصة الكاراتي في جزيرة أوكياناوا في أرخبيل الريوكيو  Ryukyu Kingdomالذي كان يحوي مملكة تابعة لامبراطورية الصين ، وكان حرس الحاكم قادمين من معبد شاولين أو وودنغ، وكذلك من الذين يتلقون التدريب في القصر الامبراطوري. وهؤلاء تحديدا سيكونون أجداد الننجا بعد قرون.

في تلك الفترة (أي منذ ستة قرون تقريبا) سافر بعض أهل أوكيناوا إلى الصين لتعلم فنون الدفاع ومنهم من تعلم في شاولين ثم رجعوا وطوروا ما تعلموه.

فن الكاراتي ينحدر من فنون شاولين الجنوبي، وخاصة فن اللقلق الأبيض لفوجيان Fujian White Crane. فهو يعتمد على القتال يدا بيد والقتال القريب ثم أنماط قتالية أخرى (بالساق واليد) ضمن نسقية مستقيمة ثابتة خلاف الشاولين المعتمد على خط حركية دائري ومنكسر.

ناها هي مدينة من مدن أوكياناوا، وفيها كان ميلاد هذا الفن العظيم بعد المرور بتطورات كثيرة عبر سلسلة من كبار المعلمين.

 فن مدينة ناها سمي ناهاتي، أو يد ناها، وعرف أيضا باسم و Shōrei-ryū  وتعني أسلوب الإلهام. وقد تفرع عن فن الشوراي تي فنان مهمان وهما الغوجو ريو Goju Ryu  (مدرسة الصلب واللين) التي أسسها المعلم الكبير والمحارب الخطير Chojun Miyagi (1888–1953). ومن معلمي هذه المدرسة الكبار ومجدديها المعلم ياماغوشي (الملقب بالقط والذي قتل نمرا في إحدى المرات وكان يقول أن كل الكون يتنفس صلبا ولينا وللصلب واللين حكمة كبرى حتى في أساليب القتال) أستاذ المعلم الفذ أوياما مبتكر الكيوكوشينكاي. والثانية Uechi Ryu وتحمل اسم مؤسسها المعلم الكبير (Kanbun Uechi (1877–1948.

الفلسفة القتالية لهذا الفن تم تحديدها بالشكل الأكثر ضراوة حين غزت جيوش الساموراي الياباني أوكيناوا  وتم ضم كل أرخبيل الريوكيو للأرخبيل الياباني سنة 1879. وتحت ذلك الظرف وبسبب منع الساموراي لأي نوع من الأسلحة ولو كان سكين مطبخ، لجأ أهل أوكيناوا إلى تقوية أيديهم المجردة، بالإضافة إلى النونشاكو التي اكتشفوها عبر ضرب العصي على الأرز وانقسامها مع وجود رابط لين بين القطعتين، وكذلك أنواع من العصي كالتونفا والعصا الطويلة والقصيرة ثم ما سمي لاحقا بفن كوبودو أوكيناوا Okinawan kobudō 沖縄古武道 والذي يعني فنون أوكياناوا القديمة.

اليد المجردة دون سلاح يتم تدريبها بقسوة على الماكيوارا لسنوات لتصبح الضربة الواحدة O Tsuki قادرة على القتل، وتكون حركة صد واحدة وخاصة     Gidan Baraiكفيلة تحطيم جسم الخصم. وضمن هذا التصور تطورت يد ناها Naha Te.

سنة 1922 استدعت وزارة التعليم اليابانية المعلم الكبير فوناكوشي من أوكياناوا لتقديم عرض لفن ناهاتي الذي سمي آنذاك اليد الصينية تانغ تي Tang Te.

عام 1924 قامت جامعة كيو Keio University بتأسيس أول نادي للفن الأوكياناوي العظيم تحت إدارة فوناكوشي.

وبحلول سنة 1932 كانت جميع جامعات اليابان تحتوي على نوادي لهذا الفن.

وفي تلك الفترة من التصعيد العسكري الياباني كانت الرغبة في التخلص من مصطلح اليد الصينية إلى مصطلح ياباني لتكون رياضة يابانية بالكامل. وقد قام المعلم فوناكوشي بترجمة جميع حركات ووضعيات هذا الفن إلى اللغة اليابانية، وأطلق عليه الكاراتي، بدل ناهاتي (يد مدينة ناها) أو تانغ تي (اليد الصينية بحكم أنه فن صيني الأصل متصل بفن اللقلق الجنوبي وفن كونغ فو شاولين كما أسلفنا).

في 27 ماي 1949 شكل بعض أكبر تلاميذه وخاصة إيساو أوباتا ، ماساتوشي ناكاياما ، وهيديتاكا نيشياما ، sao Obata, Masatoshi Nakayama, and Hidetaka Nishiyama منظمة للكاراتيه مكرسة للبحث والترويج وإدارة الأحداث والتعليم وهي رابطة الكاراتيه اليابانية Japan Karate Association. وكان فوناكوشي البالغ من العمر ثمانين عاما الرئيس الفخري، في حين كان ناكاياما كبير المدربين.

وقد تعاون فوناكوشي كثيرا مع المعلم الكبير ورجل التعليم الخبير ومؤسس فن الجودو جيغورو كانو Kanō Jigorō (嘉納 治五郎, 28 October 1860 – 4 May 1938 (سنة 1882 تطويرا لمصطلح جوجستو أي من فن الليونة إلى طريق الليونة وفي ذلك تعديل للفلسفة وتطويرات حركية كثيرة، وهو أول فن ياباني يتم قبوله دوليا ويصبح فنا أولمبيا). ومع غيره من كبار المعلمين رغم ردة الفعل القاسية من عدد من المعلمين في أوكيناوا إلى حد اتهموه فيه بالخيانة. كما تم نقد أسلوبه في مدرسته واتهم بعدم النجاعة القتالية واستمر ذلك طويلا خاصة بعد ظهور المعلم أوياما وفنه القوي الكيوكوشين وهزمه لكل معلمي اليابان تقريبا.

حكاية الكاراتي لا يمكن أن تُفهم ما لم يتم فهم كلمة كارا Kara  التي عوض بها فوناكوشي الحكيم والشاعر والفيلسوف كلمة ناها أو تانغ اللتان ترمزان لناها في أوكيناوا أو للصين.

فكر فوناكوشي كثيرا قبل أن يطلق هذا الاسم، وأعتقد أنه قرأ لموساشي العظيم. ثم اختار كلمة “الفراغ”. إنها يد فارغة من الحقد والكراهية والعدوان. يد لا تريد أن تتلوث بالدم. هو المعنى المسالم الذي أراد أن يصف به اليد المجردة بعد أن كانت تعني في أوكيناوا وفي ناها تحديدا اليد التي يمكنها القضاء على الخصم بضربة واحدة. لقد أراد لهذا الفن أن يصبح صانعا للحضارة والأخلاق لا مجرد سلاح فتاك، وقال قولته التي على كل ممارس للفنون الدفاعية عامة وللكاراتي خاصة أن يفهمها جيدا:

 “Karate Ni Sente Nashi”  والتي تعني في معناها الحرفي: لا وجود لحركة هجوم أول في الكاراتي. يعني أن الدفاع قبل الهجوم. ويعني في عمق معناه أن الكاراتي فن لا يقوم على الاعتداء بل هو فقط للدفاع. وهنا يأتي معنى الفراغ ليكون فراغا من العدوانية يشمل اليد والقلب كذلك.

وفي مقال له صدر سنة 1922 في طوكيو قال فوناكوشي: “في الأساس فإن الغرض الرئيسي للكاراتي هو الدفاع. الحركة الأولية تم حظرها بشكل صارم منذ فترة طويلة. وقيل أنه لا توجد حركة هجومية في الكاراتي. هذا الفن الدفاعي هو لتنمية عقل (مبني) على التواضع. والذي لا يجب أن يندفع بلا طائل (تحت تأثير) الروح القتالية. علاوة على ذلك فهو(فن) لا يتطلب أي سلاح. لذلك أعتقد أنه الأنسب كفن متحضر للدفاع عن النفس”.

 “Essentially, the principle purpose of karate is defense. The initial move has long been strictly prohibited, and it is said there is no initial move in karate. This martial art is to cultivate a modest mind, which must not be uselessly carried away by the martial spirit. Moreover, it requires no weapon. So, I think it is most suitable as a civilized self-defense art”.

إنها فلسفة الفراغ الذي يحمل معنى التخلي لدى الصوفية وفراغ القلب من الحسد والضغينة والأهواء. نوع من الصوم المتعمد عن كل الأمور السلبية والعدوانية. تربية وتثقيف وتهذيب ينبني على التواضع وعلى المحبة مع قوة الدفاع عن النفس ضمن منهج متحضر. هي فلسفة الأيكيدو العظيمة التي بناها المعلم الكبير يوشيبا والذي ألغى حركات الهجوم كليا كما ألغى أية مباراة بين خصمين في فنه ليكون طريقا لطاقة السلام كما تشير الكلمات التي شكلت اسم فنه Ai Ki Do.

وبالرجوع إلى تأثر فوناكوشي بأسطورة الساموراي الياباني، فإننا نتكلم عن المعلم الكبير لفن الساموراي بل ويعتبر أعظم ساموراي في تاريخ اليابان كله، الفيلسوف والكاتب والرسام والشاعر ومعلم الاستراتيجيا وملهم الكثير من الحكايات والقصائد والأفلام (مثل المعلم وونغ فاي هونغ الصيني الأسطوري) ومؤسس فن السيفين Niten Ryu : مياموتو موساشي. الذي كان أيضا أحد الرونين الأسطوريين في تاريخ اليابان (رونين Rōnin وتعني حرفيا تائه أو متجول: ساموراي  دون قائد أو شوغون. ولهم قصة ملهمة عن الأربعين رونين ظهرت في أفلام كثيرة).

Miyamoto Musashi (宮本 武蔵, c. 1584 – June 13, 1645), also known as Shinmen Takezō, Miyamoto Bennosuke or, by his Buddhist name, Niten Dōraku.

فقد خصص للفراغ فصلا كاملا مع العناصر في كتابه العظيم “الحلقات الخمس” أو الخواتم الخمس.

  The Book of Five Rings (五輪の書 Go Rin No Sho).

وهو كتاب في فنون الكنجتسو الخاصة بالساموراي Kenjutsu (剣術) وهو مصطلح جامع لفنون كوبودو المتعلقة بالساموراي أو السياف الياباني. وكذلك في الاستراتيجيا والعناصر والفلسفة  البوذية أو الزن  Zen.

وقد كتبه موساشي في آخر عام من حياته أي سنة 1945 وقد انزوى في جبل للتأمل بعد حياة مليئة بالمعارك والنزالات التي بدأها في سن الثالثة عشر وجابه أقوى مقاتلي عصره بعصا فقط وهم يحملون أحدّ وأقوى سيوف فوق ظهر الكوكب، الكاتانا الشهيرة Katana، وذكر ذلك في كتابه.

ويقوم الكتاب على خمس كتب صغرى: كتاب الارض، كتاب الماء، كتاب النار، كتاب الريح (الهواء)، وكتاب الفراغ.

يمثل فصل كتاب الأرض مقدمة ، ويشبه مجازًا فنون الدفاع عن النفس والقيادة والتدريب ببناء منزل.

يصف فصل كتاب الماء أسلوب موساشي  Ni-ten ichi-ryu أو “سماءان ، أسلوب واحد”. ويصف بعض التقنيات والمبادئ الأساسية.

يشير فصل كتاب النار إلى حرارة المعركة ، ويناقش مسائل مثل أنواع مختلفة من التوقيت (استخدام الزمن عسكريا أو في القتال).

فصل كتاب الرياح يناقش ما اعتبرها إخفاقات لعديد من المدارس المعاصرة في القتال بالسيف.

فصل كتاب الفراغ فيه أفكار موساشي المتأثرة بالزن عن الوعي والعقلية الصحيحة.

فالفراغ عند موساشي لديه وظيفة كبيرة في فهم الفن الدفاعي وفي فهم الذات. وكذلك يمثل رؤيته الفلسفية والوجودية والمعرفية. بل يراه فضيلة لا شر فيها فيقول: ” “في الفراغ فضيلة ، وليس شر. الحكمة لها وجود ، المبدأ له وجود ، الطريق له وجود ، الروح هي العدم”.

وأنا منكب منذ سنوات على دراسة هذا الكتاب الفريد مع أمل ترجمته يوما ما إلى العربية.

لقد تمت دراسة كتاب موساشي بعناية وصُنف كأفضل كتاب تكتيكي، كما أشيرَ إلى تأثر موساشي بكتاب صن تزو: فن الحرب.

الفراغ يحمل معاني أخرى عديدة: إنه أسلوب اللا أسلوب الذي طوره بروس لي بعد دراسة عميقة لعديد الأساليب القتالية (خاصة مع صديقه دان إينسانتو الخبير) وانكباب على فهم فلسفة الين يانغ الطاوية الصينية. ومن شروط فنه أن يكون الذهن خاليا من التفكير في أية حركة عند القتال لأن التفكير يعيق الحركات كما يعيق الحجر انسياب الماء وقال تلك الكلمات التي جابت العالم في حوار تلفزي شهير في هونغ كونغ: كن كالماء يا صديقي.

 وكذلك قال المعلم الكبير والذي لقب بالساموراي الأخير أو العملاق الصغير لقصر طوله وقوته الرهيبة “تاكيدا”

Takeda Sōkaku (武田 惣角, October 10, 1859 – April 25, 1943) founder of Daitō-ryū Aiki-jūjutsu.

” أنا الفراغ، من يستطيع هزم الفراغ”.

 مشيرا بذلك إلى أسلوب قتالي فريد في التحول إلى فراغ يضيع فيه الخصم ويعجز عن السيطرة عليه أو إصابته. وكان تاكيدا فعلا ملكا للفراغ ولم يتمكن أحد من هزمه طيلة حياته. إنه شبيه بقتال الطيف الأسطوري في اليابان.

هذا سفر مختزل في معنى الفراغ وقصة الكاراتي. وهو مجال لتأمل عميق وبحث دقيق وتمرين كبير حتى نصل إلى الفراغ الحقيقي من كل الشرور والامتلاء الحقيقي بالخير والنور. إنه طريق صعب وشاق خاصة مع كثرة ما يثير الشر ويحفز على الأمور السلبية. ولكن خبير فنون الدفاع الحقيقي عليه أن ينتصر على نفسه وأن يصل لذلك الفراغ الذي يوصله بالروح الأعلى المقدس الذي يسميه اليابانيون كامي Kami. ولكامي قصة تمر عبر هجوم المغول على اليابان وتحطيم الرياح لسفنهم مرتين. لتسمى رياحا مقدسة Kami Kaze، ثم ليتم استدعاء المصطلح وروحه في حرب اليابان ضد الولايات المتحدة ولتتم ترجمته حرفيا في بيرل هاربر حتى أصبح الكاميكاز رمزا للانتحاريين بعد أن كان رمزا للرياح المقدسة. تلك لعبة أخرى للفراغ الذي يعاني منه الكثيرون وتعاني منه دول وشعوب باكملها لتكون أعمارها فراغا وأعمالها فراغا وأوقاتها فراغا، وبين فراغ يد الكاراتي وفراغ التخلي الصوفي، وصنوف الفراغ العقيم، مسافات تحتاج لدراسة وعمل، بل تحتاج لمعجزة من سماء الكامي المقدس نفسها، تلك التي منها سقط فن اليد المجردة، على الجزيرة المستحمة بشمس الجنوب، كما قال فوناكوشي، الذي لم يكن فقط معلما ومقاتلا عظيما، بل شاعرا عظيما أيضا، وهو ما قد يملأ فراغات الأسئلة بين تخصصي في فنون الدفاع وكوني شاعرا، ومتصوفا، وباحثا عن العمق حتى في جوف الفراغ نفسه.

سوسة 09/12/2019  21:35

أوكيناوا، الفراغ، الكاراتي، المعلم مازن الشريف، ساموراي، فوناكوشي، كتاب الحلقات الخمس، موساشي