السرعة، الدقة، الحسم: أمور هامة جدا في فنون الدفاع، الفنون الحربية، والعلم العسكري. في جانب النظرية وفي جانب التطبيق. إنها أسس النجاعة تكتيكيا واستراتيجيا.
إن إتقان فنون الدفاع يستلزم صبرا حتى يصل المقاتل إلى دقة عالية وسرعة كبيرة تمكنه من حسم المعركة.
وحين نطبق ذلك في استراتيجيات الدولة عامة فإن سرعة انجاز مشروع ما ودقة تنفيذ مخططاته الهندسية والحسم في ذلك حيث لا يتم التراخي ويتوفّر العمل على قدر من الصرامة والاتقان هو من أسس نجاح المشاريع. وحين نواجه مشكلة ما فلابد من السرعة والدقة والحسم: مثل حريق في غابة، لابد من سرعة التحرك، دقته حتى لا يمضي أعوان الإطفاء إلى البحر عوض الغابة مثلا في أغبى صور الافتراض التي لا أراها غريبة حين نسقط ذلك على غباء بعضهم في الاستراتيجيا كمن يطفئ حريق الغابة وهو يصب الماء في البحر. ثم الحسم وفيه تطويق الحريق وعزله ومنعه من الامتداد وقطع امداداته ثم إخماده بالكامل، وهذه الصورة مناسبة تماما لكل ما يهدد الأمن العام للدولة وأمنها القومي بصفة خاصة، فلابد من تحديد الخطر بدقة ودراسته بشكل دقيق ثم سرعة التعامل معه قبل أن يستفحل والحسم في القضاء عليه عبر نظم اليقظة والحماية والتصدي والردع وسواها من النظم العسكرية والاستراتيجية.
الجسم حين يحدد وجود مرض فإن تحرك قواته الداخلية يكون سريعا ودقيقا حيث أن كل نوع من الأمراض له نوع دقيق من الدواء الذاتي أو في التدخل الطبي الذي يجب ان يكون دقيقا، وفي الحالتين يكون الحسم ضروريا، وكما أن الأجساد تمرض فإن المجتمعات والدول تصاب بأمراض منها الخطير المستعصي ومنها العادي، وفي كل الأحوال فإن المناعة لابد أن تكون قوية حتى تستطيع التفاعل بسرعة ودقة وحسم.
حين تواجه خصما ربما أن سرعة ضرباته تمنعك من الحركة وتسقط في فخ الذهول والصدمة، أو ربما أنك ترغب في تنفيذ مراوغة أو حركة صد أو هجوم لكن عضلاتك تخونك وجسمك لا يمكن لك من السرعة المطلوبة، وحين تكون الحركة بطيئة مرئية فإنها تفشل لا محالة، أو ربما أنك سريع لكنك لا تقدر على الدقة بل تخبط خبط عشواء، أو ربما انك سريع دقيق ولكنك لا تقدر على الحسم فتتراخي أو تغتر وفي هذه الأحوال تهزم، وهذا ينطبق تماما على استراتيجيات الدول حين تواجه المخاطر، فهي إن لم تكن قوية منيعة في حال من الحيوية والفاعلية فلن تجد السرعة ولا الدقة ولا الحسم، وقد تقع في كل ما بينت لك من احتمالات.
في الأدب والحكمة يتكلمون عن الإصابة، وفي الشعر يتكلمون عن سرعة البديهة، أما في كتاب الله فإنك تجد البارئ عز وجل يقول عن نفسه أنه سريع العقاب، وشديد العقاب، وأنه أمره لا يخطئ من أراده به، وأنه حين يقضي أمرا فإنه يتم، وكثيرا ما تجد صور ذلك وخاصة في التدخلات الحربية للجيش الرباني، مثل ما كان من عاد وثمود وسرعة الرياح وقوتها وقوة الصيحة ورجفتها أو قوة الطوفان زمن نوح وشدته أو ما كان أمر قوم لوط وسرعة الحسم الملائكي، وربما أن مشهد اليمّ الذي انشق لموسى وكيف ضرب فرعون وجنده بدقة كبيرة وسرعة رهيبة وحسم جبار. ثم لك أن تنظر في صورة أصحاب الفيل وكيف تم الحسم في أمرهم بدقة وسرعة، وبقوة أيضا، والقوة هي مزيج الدقة والحسم والسرعة، فإن وجدت دون ذلك كانت قوة عاجزة.
وحين تراجع تاريخ الحروب فإنك تجد السرعة والدقة والحسم في كل انتصار حربي، وأن من يخل بشرط من هذه الشروط الثلاثة يخسر ولو كان أشد قوة.
حين تجرب فن السيف وتتقنه تفهم معنى ما أقول، لأن سرعة الضربة ودقتها وحسمها هو سر قوتها وضراوتها، ولهذا فإن السيف البتار القاطع حين يكون في يد متراخية وعين غير دقيقة ونفس غير حاسمة فإنه يتحول إلى قصب، كما أن العصا العادية حين تكون في يد سريعة وعين دقيقة ونفس صارمة حاسمة تكون أقوى من أقوى السيوف، وشاهد ذلك المعلم الكبير وأعظم ساموراي في تاريخ اليابان مياموتو موساشي مؤلف كتاب Gorin Nu Shu أو الحلقات الخمس (في القرن السابع عشر) وهو أهم كتاب في التكتيكات الحربية، وهذا السياف قام بنزالات مع أقوى الساموراي وكانوا يحملون الكاتانا (أدق وأقوى وأمضى سيف في العالم) وكان مياموتو يحمل مجرد عصا لكنه لم يهزم مطلقا طيلة حياته.
وعليه فإن أبطالا وسيّافين وخبراء في فن المثاقفة وفي فن الأيدو (رمي السهم) وفنون الننجا كانت ميزتهم الأساس السرعة والدقة والحسم، ولعل فن الننجا شينوبي عبر كل فنونه الداخلية هو مثال لهذا الأقنوم الثلاثي، فالننجا سريع دقيق حاسم، ولعل صورة نجوم الننجا (شوريكين) التي يرميها المقاتل بسرعة ودقة من أمثلة ذلك.
الدقة والسرعة والحسم من أسرار التطور العسكري العالمي، حيث سعت الدول لكسب سرعة أكبر ودقة أمكن وحسم أكثر صرامة، ولعل الطائرات والصواريخ من نماذج ذلك، وكلما كانت السرعة مفعلة أكثر والدقة بشكل تام كان الحسم كليّا، وهنا دور الأقمار الصناعية على سبيل المثال ومنظومة الحرب الرقمية.
بإمكاني أن أكلمك عن هذا الأمر في أبواب كثيرة: ضمن التنمية البشرية ومجالاتها وخاصة فن القيادة الذي يكون سريعا دون عجلة، دقيقا دون غفلة، حاسما دون غرور أو تعصّب. أو في التعامل الحياتي وإدارة أعمال الذات أو أعمال مؤسسة ما.
أو ضمن الطاقة الحيوية وكيفيات تفعيلها وكيف تزيد دقة المقاتل والإنسان وسرعته في أمور كثيرة، فالتشاكرات حين يتم فتحها تضاعف القدرات التحفيزية والحركية.
أما في مجال العقل والذاكرة وتطويرها فإن البناء الفكري القوي يوفر لك سرعة بداهة وسرعة تذكّر ودقة في الفكر والتحليل والربط ومنطقا برهانيا حاسما، وإن الحسم هنا يدخل ضمن علم الحجة الذي يحتاجه الناقد ويحتاجه المحلل والخبير.
يبقى لك أن تحاول الربط بين كل ذلك وأن تفهم أن علم الاستراتيجيا حين تورده بحر فنون الدفاع فإنك تجد كنوزا كثيرة، كما أني أعلمك أن العلوم كلها ترتبط ببعضها وعليك بحسن الربط وحسن الفهم تجد سبلا سريعة دقيقة حاسمة لفهم العلوم وروابطها وللإضافة إليها وتفكيك منطقها. كما أن علمك هذا عليه أن يلامس العالم التطبيقي ولا يكون مجرد نظريات تعوم في عزلة باردة. وإن التفاعل مع المستحدثات والتطورات يحملك على إعادة القراءة بدقة حتى يكون لك أن تبني حلولا جديدة تتوافق مع المستجد ولا تلغي ما عندك من قواعد.
السرعة تعني تفعيل تزمين أكثر حركية، وهنا باب لعلم الزمن، وللتوقيت وفنونه المهمة في العمليات العسكرية وفي الفنون الدفاعية وفي الحياة ككل.
الدقة تعني حصر المكان في دائرة، وحصر الدائرة في نقطة، مما يعني التركيز الكلي، وهنالك مثل على ذلك في رجل أمسك بندقية وقال لأولاد ثلاثة له: انظروا إلى ذلك العصفور فوق الغصن لقنصه، فقال الأول: أرى عصفورا على شجرة، وقال الثاني أرى عصفورا، في حين قال الثالث: أرى عين العصفور. وضمن هذا معنى دقيق للدقة، وحين يتم تفعيله في التعامل مع الاشكاليات والمخاطر فإن الغصن يكون الإشكالات الجانبية والعصفور يكون المشكل في حد ذاته وعين العصفور تكون جوهر المشكل الذي يجب ضربه، وللفيزياء مساندة لهذا في نقطة الارتكاز التي يتم الاعتماد عليها في التكسير مثلا والذي يبرع فيه مقاتلوا الكيوكوشينكاي وخاصة المؤسس أوياما الذي امتلك دقة وسرعة وحسما مكنه من قتل الثور بضربة واحدة في الرأس.
أما الحسم فهو تتويج الانتصار، لأن انتصارا ناقصا يمكن أن يتحول إلى امر الهزائم، والصورة الأقرب هي غزة أحد، فإن الرماة على الجبل حين خالفوا أمر رسول الله واستعجلوا الانتصار ونزلوا للغنائم خسروا الحرب. ومن هذا الباب يكون الصبر وعدم الاستعجال ورباطة الجأش والقدرة على الردع والصد والعزل والتطويق واليقظة والحسم الكامل، وكل هذه المصطلحات تحمل خلفها مفاهيم ومضامين كبيرة وهامة لابد لك من دراستها كلٌّ على حدة، وهي عماد كل عملية أمنية أو عسكرية أو تكتيكية أو استراتيجية.