التحرر الإنسيابي الجيني

هل سمعت عن عنترة العبسي، ذلك الذي قوته بألف فارس كما تتباهى رمال الصحراء وتحكي، وينافسه أبو زيد الهلالي قوة وبطولة في الحكايات والأغاني التي انتشت لها البوادي قرونا عديدة عبر ربابة الشاعر يتغنى بأمجاد الأبطال، أو عن زرقاء اليمامة التي كانت ترى على مسافات قد تصاب حواسيبنا ونظمنا بالإحباط حين تقيسها، وعن قس بن ساعدة الإيادي الذي كان يخطب ارتجالا فيبهر العقول والقلوب، لن أحدثك عن الانبياء والرسل وأصحابهم لأنهم أكبر من ان نحلل تحرر طاقاتهم المبهر، شأن إلهي لك أن تفهمه وتتأمله.
مؤكد أنك سمعت أيضا عن الصعاليك، عن الشنفرى وتأبط شرا وعمرو بن براقة، والذين كانوا يعدون فتعجز الخيل عن اللحاق بهم، لاحظ أن السباق يجري في رمال الصحراء الحامية التي حين تغوص القدم فيها تعجز عن الحركة، وعن أحد الصعاليك حين جاء سوق عكاظ ووجد رجلا يعرض مهرتين من أسرع ما رأت الجزيرة، فراهنه على أن يسابقهما وإن سبقهما أخذهما فسابقهما وسبقهما وغنم ومضى، وهو في الكتب بين يديك، ربما يتأفف عقلك المحترم إلى أنها أساطير، حسنا، ما رأيك بكيم بيك الامريكي، واطمئن فهو لا يزال حيا، الموسوعة الحية، مصاب بالتوحد وبما يسميه العلماء بتملازمة سافانت، يحفظ 12 ألف كتاب عن ظهر قلب، وبإمكانه قراءة صفحتين في تسع ثوان وكل عين تقرأ صفحة على حدة، وبإمكانك أن يحدد لك اليوم وأهم الأحداث إن ذكرت له أي تاريخ شئت، لا تستغرب، فهو أمر حقيقي، وحقق الامر علماء كثيرون وصورت عنه برامج كثيرة وشكل صفعة موجعة احمرت لها وجنة حضرة العقل المادي فظل ينظر بغيظ وهو يحاول جمع شتاته والبحث عن سبيل للخلاص لكنه يضحك ملئ غروره حين يخبرنا أن كيم بيك مجرد مريض بالتوحد، خاصة حين يجد ان أكثر من لديهم هذه القدرات مصابون بالتوحد، فيحمد العقل ماديته على السلامة موهما من يحيطون به انها حالات نادرة شاذة.
حسنا، هي حقا حالات نادرة، منذ القدم الذي نعرفه وإلى الآن، وفي عصرنا الحالي قام الدكتور دارولد تريفيرت المتخصص في هذا المجال والذي أمضى زمنا طويلا يبحث عن العباقرة الخارقين، وقد حصرهم في مئة شخص، رغم أنه مجرد عدد تقديري فقط.
وما رأيك في روديغير غام، لم تسمع به، إنه آلة حاسبة، إليك مشقطعا من برنامج تلفزيوني خاص به عرض على أكثر من قناة ونقل إلى نصوص مكتوبة:
ثورسترن فير: لنبدأ مع مسألة سهلة، لنقل اثنان وستون قسمة مئة وسبعة وستين.
المعلق: إنّ عالم الأعصاب ثورسترن فير من جامعة بريمن متخصص بدراسة أشخاص يتمتعون بقوة ذاكرة هائلة. ويعد نابغة الرياضيات “روديغير غام” الحالة الأبرز التيتثير الدهشة حتى الآن.

روديغـير غام:
0.371257485029940119760479041916167664760655868263 4734730538922155688622754491017964071856

فير: إجابة صحيحة حتى الرقم ثلاثين الظاهر على الآلة الحاسبة.
حاول وانت تقرأ هذا أن تتصور الخالق سبحانه يسأل آدم عن الأسماء كلها وانظر إلى انبهار الملائكة ربما تدرك ما أريد إيصالك إليه وإيصاله إليك.

وهنالك حالات كثيرة للفرادة والقدرات التي تعتبر خارقة، لن أتعبك بدراسات الدكتور راجي عنايت وقصص خبراء البارسيكولوجيا والنماذج التي درسها علماء في روسيا والولايات المتحدة (خاصة أثناء الحرب الباردة) وأوروبا وحاولوا ولا زالوا الاستفادة منها واخفاء الأسرار قدر المستطاع (في حين يعمل مخطط مضاد لإخماد كل بارقة تميز في أمتنا الحريجة وخنق كل متميز أو تحويله إلى ببغاء يردد ترهاتهم)، ولكني أشير إلى طفلة مبتسمة دائما، إنها “أكيانا كراماريك”، طفلة أمريكية أذهلت العالم في الرسم، خارقة بكل معنى الكلمة، ولعلي أضيف بكل ثقة “إيمان مالكي” الذي يعتبر أعظم رسام واقعي على الإطلاق، ولك ان تقوم ببحث يسير أو تبحث في ملفات الفيديو عن برامج خاصة بهذه المسائل فتجد ما يبهرك ويبقيك في حيرة، ولكن ليس في الأمر حقيقة أي خوارق، لأنه من وجهة نظر إنسانية، أمر طبيعي جدا، ولكن المشكلة فينا نحن!
إن هذه النماذج التي ذكرت لك، ومن شابهها على مر التاريخ، نماذج للتحرر الإنسابي الجيني للطاقة الكامنة، والتي تقوم بتحفيز الطاقات الحيوية وبقية الطاقات الأخرى، وتفتح بوابات القدرات الإنسانية الكامنة، وتقوي العقل والحواس ويمكنها ان تتمكز في حاسة محددة أو قدرة معينة وفق مخطط من قبل عليم قدير، مخطط لن يتمكن العقل من الاحاطة به مهما فعل، لذلك يكون التحرر الانسابي مركزا في حاسة البصر لدى زرقاء اليمامة وفي القوة والفروسية لدى عنترة او أبو زيد الهلالي، وفي الذاكرة لدى كيم بك وفي الموهبة لدى عباقرة الأدب والعلم.
وقد يظل كامنا حتى يأتي محفز يفجره، لكنه جيني بشكل كلي، أي معطى موجود سره في الجينات الوراثية، هندسة إلهية يصفع بها غرور البشر كل مرة.
إنه تحرر طبيعي جدا من جهة مصدره ونموذج الاول، آدم، الذي خلقه الله بيديه، ونفخ فيه من روحه، وعلمه من لدنه علما، الأسماء كلها، وكان في الجنة ثم نزل الأرض وتلقى أيضا كلمات من ربه فتاب عليه.
إن كنت تعقتد أن الإنسان انحدر من قرد تطورا وطفرة، وأن خلق الله عز وجل لآدم، ولحواء منه، ونزوله من الجنة، محض أسطورة لا علاقة لها بالعلم الأكاديمي (كم يتشدق العقل الذي يرتدي قبعة التخرج من الجامعة المادية وهو ينطق هذه الكلمة منتشيا مزهورا مخفيا فزعه) إن كنت كذلك فاعلم أنك حر فيما تعتقد ولن ألمس حريتك فامنحني حريتي لأعتقد بدوري ما أؤمن به وكن مطمئنا فلدي من الحجج العلمية ما يكفي لأبرهن على ما أقوله وسأستمع بإنصات لحجج دحضك.
إن الله حين خلق آدم عليه السلام زوده بقدرات كبيرة جدا وانسابت طاقته الكامنة والتي مصدرها (نفخت فيه من روحي) انسابت تلك الطاقة التي تنبع من روح إلهية في أول إنسان، وانتقلت إلى زوجه ثم إلى بنيه، وكان الشر متربصا ليحول تلك الطاقة النقية إلى كامن من الشر والحقد مكن الأخ من قتل أخيه، كامن جيني نفسي إذ أن الخالق ألهَم كل نفس فجورها وتقواها، وهكذا كانت البشرية تحمل قوة هائلة وقدرات كبيرة، عمر مديد يتجاوز الألف سنة، فلا يمكنك ان تتصور نوحا الذي دعا قومه ألف سنة ولد ثم دعاهم مباشرة دون أن يبلغ النضج، كما أن بعض المنطق يقنعك بأنه عاش بعد ذلك أي بعد الطوافان، وذات المنطق سيرسم لك صورة جلية لكون عمر نوح لو كان معجزة لآمنوا به ولكنه كان أمرا عاديا في قومه الذين يعمرون طويلا والدليل ابنه فلا نتصور أنه أنجبه في آخر الألف سنة من دعوته لله وزوجته فلا يعقل أنه تزوج ألف زوجة ولكان أنجب آلاف الأطفال، كما أن بناء السفينة تطلب زمنا طويلا لن تتمكن البشرية اليوم من الصعود فيها أي أن من يقع وعده بالنجاة سيموت منتظرا وقد يصعد احد احفاد احفاده.
بعض الذوق والاستنباط سينفي أنه كان يدعو اجيالا يموت بعضها موصيا الاخر بالكفر، ولو كان الأمر كذلك لكان عمره معجزة أعظم من معجزة أهل الكهف، لكن التامل المنطقي يبين لنا أن الإنسان حينها كان يعمر طويلا جدا، وكان بحجم كبير جدا، ويقدرات رهيبة، لازالت آثار أحفاد أحفاد (كرر الكلمة حتى تتعب) تلك الأجيال الاولى تبهرنا وتشعرنا بالرهبة، هل تعتقد أن من بنى الاهرامات كان حقا عبدا مسلوخ الجلد بالسياط جائعا كما يحاول بعضهم ايهامنا لسلبنا أمجاد التاريخ ونسبتها إلى من لا تاريخ ولا مجد لهم!!
إذا فعلى المحترم دارون أن يعيد مراجعة حساباته، فالطفرة لم تكن تطويرا حوّل أحادي الخلية إلى ثدييّ والسمكة إلى حيوان بري والقرد إلى إنسان (أومو سابيان سابيان) لنكون الآن قمة التطور والنمو، ونضحك من الانسان البدائي ونحكي بشغف قصة أكله لحم الضواري نيئا وهو بين حالة القرد وحالة الانسان قذرا همجيا ثم نروي بغبطة ملحمة اكتشافه مصادفة للنار وكيف تعلم شواء اللحم مصادفة ايضا فاستساغه ثم تعلم الطبخ واستخدام الحديد ثم منحته الطبيعة لسانا ناطقا وطورت له عبر المصادفات لغة ثم فجأة وبلا مبرر أصبحت شعوب وحضارات ولغات وتواريخ وفنون وعلوم وألون مختلفة من البشر وأعراق وانساب وخصائص معمارية واجتماعية مختلفة متنوعة حد الابهار، أحاول إكمال هذه الاسطر دون الكشف عن ضحك روحي من هذه الترهات كطفل يضحك من حركات مجنون خرف، وأنظر إلى هذا العقل المدجج بالكتب والأفلام وحتى الصور المتحركة التي تتشربها عقول النشأ وقلوبهم راسمة ملاحم التطور وقصص الانسان البدائي الباحث عن النار مشيرة إلى نقطة الضوء حيث أصبح الانسان العصري رمزا للرقي الكلي للإنسان بعد كل تلك التطورات والمخاضات، وهو الذي فعل من الجرائم والخبائث ما يجعل فرعون يحني رأسه خجلا.
في ركن من قلبي صوت يتردد حاملا علما ويقينا وفهما :يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) (الحجرات”
لن أتكلم عن التنوع الحيواني الرائع وكيف أشعر بوخز في قلبي حين أرى برامج عن عالم الحيوان ناطقة بالعربية تهمس أن الطبيعة منحت هذه السمكة زعانف وطورت في تلك، وأن الطبيعة عبر التطور نوعت الأجناس وزينتها، وأحاول أن أتناسى أن البشرية عبر تاريخها لم تشهد تخرج قرد وتحوله إلى إنسان، لأنه إن صح الزعم فالتطور مستمر وفي كل عصر سنظفر بدفعة جديدة وسنرى قطا يتحول إلى نعجة وسمكة تنقلب جملا!!
إذا فالمحترم دارون ومن سار في نهجه أوسبقه فيه تعمد مغالطة الحقيقة والكذب باسم العلم، منكرا وجود خالق حكيم مهيمن، معطيا الطبيعة قوة الخلق عازيا كل شيء إلى مصادفات اعتباطية وإلى أكاذيب مقنعة ومقنّعة بأقنعة الحق والعلم الأكاديمي الرصين.
الأمر عكسي، كان الإنسان الأول يمتلك قدرات نراها الآن خارقة، ذكيا قويا مكن له الله من حواس خفية وأخرى ظاهرة، كان لديه استشفاف قوي واستشعار عميق وقوى مختلفة كامنة، انسابت في أجيال ثم بدأت، في ما أسميه “قانون الإمّحاق”، تمّحق تدريجيا، ومثلما يغدو البدر بالتدريج محاقا عابرا مراحل من نصف قمر فربع قمر فهلال، كذلك حدث لهذا الإنسان، ونحن لسنا قمة التطور والطفرة، بل أضعف الحلقة، قمة الامحاق، هل منا من يتسطيع مهما أوتي من تقنية بناء هرم واحد، ولكي تقتنع تأمل قوة جدك، واستمع لحديثه عن قوى أجداده، عن النقاء الفطري، والقدرة الجسدية، والتآلف مع الطبيعة، والصحة والمناعة، حاول إذا أن ترجع آلاف السنين مستخدما نفس القياس، ثم انظر إلى حالك، وستفهم.
بلى مكن الله لنا من التقنيات الكثير، رحمة من لدنه وابتلاء، لكن من جانب القدرات والتحرر الطاقي نحن في أسفل البئر، وجدّنا الاول فوق السحابة، هنا يحضرني مثل لكونفشويس ترجمته من اللغة الفرنسية: “الذبابة لن تذوق طعم الثلجن والضفدعة في البئر لا تعرف رحابة السماء”
العقل المادي شبيه بتلك الضفدعة حين يقبع مصرا على أن كل شيء مجرد دائرة مصادفات بلا خالق ولا مسير ولا مدبر، والانسان العصري أتعس حالا من تلك الذبابة حين يتناسى قصر عمره وقلة قوته ويدعي أنه أقوى من كل من سبقه وأعلم وأكثر أملا.
لست أنقم عليك أيها الانسان العصري الذي يمثلني لأني أيضا مثلك، لكني فقط أريدك ألا تغتر كثيرا بنفسك وعلمك، لقد مر بهذا الكوكب من هو أعلم منك وأقوى وأطول عمرا، ربما لو نطق الهرم أو تكلمت آثار المايا والإنكا والأزدك وبابل، أو استطاعت اطلنتكس أن تطل من جوف المحيط وتتعرض بعض المشاهد، ربما حينها كنت ستدرك بعض الحقيقة، وما يدريك، لعلها فعلت، ولكنهم لم يخبروك، شاهد أروع أفلام هوليود لأكثر المخرجين عبقرية (ستيفن سبيلبارغ ومايكل باي وجايمس كامرون كنموذج) والتي تحكي عن أمور مشابهة مع أسلوب قد يبتعد كثيرا عن جوهر المعطى الأساسي، انظر لسيرة كاتب السيناريو والمخرج، وانظر لعلاقتهما بوكالة الفضاء الأمريكية، وفكك الشيفرة وحلل جيدا، فقد يعمل عقلك أخيرا بانسياب يكشف لك ما خفي عنك ويشحذ إيمانك ويشحنه.
هل فهمت الآن معنى التحرر الانسيابي الجيني، إنه ببساطة تفعيل لجينة وراثية أصيلة ترجع إلى أبينا آدم والبعض من ذويه (أعني أجيالا من البشر) الذين كانت لديهم تلك الملكات بشكل طبيعي جدا، أمر خفي في التشفير الجيني، في DNA، موروث لا يستطيع أحد تحريره ذاتيا، أمر للخالق سره، وهذا التحرر الانسيابي على مختلف أشكاله سر كل من ذكرت لك من بشر خارقين، لكنه في الحقيقة هم الطبيعيون، أما البقية، فبحكم الأغلبية وتباعد الأزمنة أصبحوا طبيعيين ونظروا إليهم على أنهم نوادر وحالات غير عادية، إنه الامحاق الذي حين امتزج بالتحرر الرهيب لطاقات الشر الكامنة في النفس البشرية صنع من الانسان، خاصة هذا العصري الأنيق، أسوأ آلة دمار وخراب وإفساد على مر التاريخ، إلا من رحم ربي وكان في عين العناية…
انتهى الدرس الرابع، تأمله جيدا..وإلى الدرس القادم عن التحرر الانسيابي التأملي، وهو أمر يهمك جدا، بما أن التحرر الجيني قد لا يعنيك مطلقا فهو وهْب لا كسْب…