التحرر الإنسيابي، معين الطاقة الذي لا ينضب

علم الطاقة الحيوية علم متشعب جدا، قد يدعي العقل المشحون بقوالب المادة والمتسلح بأجهزة التشخيص البصري، الرافض لكل ما لا يراه بعينه المجردة أو بأجهزته المعقدة، قد يرفض وجود مثل هذه الطاقة، حتى وهو يتيقن بتلك العين وتلك الأجهزة في مرات كثيرة من وجودها، لكنه وهو يحاول جمع انفاسه سيشعر بحاجة ماسة لشحن طاقته، ليحاول مجددا حجب الشمس بغربال بال…
الطاقة الحيوية فرع من الطاقة الطبيعية، الطبيعية فرع من الطاقة الكونية وهنالك طاقات فوق كونية يحلو لقلبي أن يسميها “ربانية” مطمئنا إلى أن عقلي لن يجادله لأنه مدجج بآلاف البراهين المنطقية والعلمية واليقينية التي تثبت وفق تجارب علماء كثيرين وجود طاقة غامضة تزود كل شيء بالطاقة ولا تحتاج إلى مزود أو مصدر معين محدود ولا تنضب أبدا…
كنا بصدد نظم تحرر الطاقة الكامنة، ذلك البحر الذي تربض مياهه في أعماق أرواحنا منتظرة لحظة انفجار أو انسياب، طاقة نقية قوية فعالة جدا، وبيّنا أن نظم التحرر فيها ما هو انسيابي وفيها ماهو انفجاري، وقسمنا الانفجاري إلى صنفين لا إرادي قهري غير واع وإرادي تأملي واع وكلاهما مرتهن بلحظات قليلة تتضاعف فيها القوة وتنفجر الطاقة عابرة الحواس والعقل غامرة الإنسان بقوة هائلة لكنها غير منضبطة وسرعان ما تخبو كأنها لم تكن مبقية في حالاتها اللإرادية خَورا جسديا واحتراقا عصبيا وفراغا عقليا موجعا….
التحرر الإنسيابي هو تحرر مستمر هادئ، الفرق بينه وبين الاول كالفرق بين النهر والبركان، يصلح البركان مدمرا مزمجرا أن يكون آية أو عقابا أو تمظهرا للقوة المزمجرة، لكنه لا يصلح أن يكون صانعا للحياة، ومانحا للخصب، بشكل دائم مستمر، لكن النهر! تأمل مصر واذكر كلمة هيردوت عاشق مصر الأبدي حين قال: “مصر هبة النيل”، إنه انسياب للحياة بشكل حر نقي، وهو عين اليقين فيما نحن بصدده.
التحرر الإنسيابي يتطلب فهمه قلبا نقيا صافيا، قلبا تنساب إليه الحكمة دون الحاجة إلى ترديد كلمات العبور بلا فائدة، لأن العقل وحده لا يكفي، وإن كان العقل جوهريا في التعاطي مع الحقائق وفهم المعطيات والتحقق من المعلومة وتحليلها واستنباط الناتج منها.
سنحاول الإجمال قدر المستطاع، ليسهل التمثل ويتيسر الفهم، مذكرين أن كل ما ورد ويرد هنا تأملات ذاتية نهلَت من دُربة طويلة وقراءات كثيرة وأنار الرب فيها ولها ما شاء.
وأنت تنظر إلى نهر ينساب بكل هدوء، إلى تلك المياه تجري في حبور وتنطلق في نشوة، تتحول إلى راع بسيط يمسك نايا في يده، وقد نتخيل أبا القاسم الشابي شاعر تونس الجميلة الذي استحق العالمية وهو يناجي الغاب ويرعى الخراف في هدوء مترنما:
عـذبــة أنـــت كالطـفـولـة كـــالأحلام كالـلـحـن كالـصـبـاح الـجـديـد
كالسَّماء الضَّحُوكِ كاللَّيلَةِ القمراءِكـــالـــوردِ كـابـتــســامِ الــولــيــدِ
يـــا لـهــا مِـــنْ وَداعـــةٍ وجــمــالٍوشَـــبــــابٍ مُــنــعَّـــمٍ أُمْــــلُــــودِ
يا لهـا مـن طهـارةٍ تبعـثُ التَّقـديسَ فـي مهجَـةِ الشَّـقـيِّ العنـيـدِ
يــا لـهـا رقَّـــةً تَـكــادُ يَـــرفُّ الـــوَرْدُ منـهـا فــي الصَّـخْـرَةِ الجُـلْـمـودِ

أو ترى جبران فتتغنى معه:
أعطني الناي وغني فالغنا سر الوجود
وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود
على ألحان ندية يأتي معها صوت فيروز منسابا حالما هادئا جميلا…
وانت تمضي خلف هذه الكلمات، حاول أن تغمض عينيك قليلا وتتأمل الصور، حاول أن تسمتع إلى موسيقى هادئة، وإن كنت في مكان شبيه بما وصفت، فاعلم انها نعمة عظيمة، أكمل هذه الأسطر، ثم انطلق وتامل، وانظر إلى انسياب كل شيء من حولك..
انسياب الماء وخريره الذي يبعث السكينة في الروح، انسياب الخضرة على وجنة الأرض، انسياب العصفور في الجو وانسياب زقزقته…حاول أن تلامس ذلك بروحك وقلبك، واحذر من سوط في عقلك، سوط ناري في شكل صوت يردد في اشمئزاز: هل يجوز على من يدعي تقديم بحث علمي اكاديمي ان يستشهد بالشعر!!
اعلم أن ما قتل العقل المعاصر تخشبه واصطناعه الرصانة عبر اغتيال كل ما هو طبيعي وادعاء خلق بدائل من صنعه وعبر محاولته إخفاء الحقائق التي تشير بصوت مرتفع إلى وجود خالق لكل شيء، مموها أن الطبيعة خلقت وطورت واننا محض طفرة ومجرد ضربة حظ للصدفة التي تقامر بالأصناف والأنواع!
إن ما قتل هذا العقل هو تحجيره لطاقته ولطاقة الانسان عامة، لذلك لا تندهش حين أكشف لك عن حقيقتين:
أولا: أني رمت فيما ذكرت لك أن تشعر بمعنى التحرر الانسيابي للطاقة الكامنة لأنك إن تأملت حقا بقلب نقي ما وصفت لك فستشعر بانسياب طاقتك الكامنة ولو للحظات تغمرك بشيء يشبه القشعريرة وبسكينة تتآلف مع التحرر الإنسيابي للطاقة الكامنة في الماء والخضرة والعصفور المنسجمة مع بعضها في هالة من طاقة إلهية نورانية شفافة، قصدت علاجك من تصلّبك..
ثانيا: أن تعلم أن أكثر امراض العصر النفسية والعصبية، والقلق الساكن في القلوب والجاثم في العقول والإحباط والياس والتصلب والتخشب في العلاقات بين الناس كل ذلك ناتج لانسداد ممرات التحرر الانسابي للطاقة، تماما كما يموت النهر حين تحاصره السدود من كل جانب ويشرب التصحر مياهه ببطأ وتشفّ.
فهل تستطيع الآن أن تفهم أن العلم ليس تصلبا ولا ادعاء مقيتا واصطناعا مكابرا حد التفاهة، وهل بإمكانك أن تبصر أن الإبداع بشتى أشكاله، الموسيقى الراقية والشعر الرائع والرسم المتقن، منهل للعلم وشاحذ له، ومصدر لطاقة كامنة حين تنساب في شرايين العلم يرتقي نحو الأجمل والأكمل والأفضل.
وهل يمكنك أن ترى كيف أن الوضوء والصلاة والصوم والذِّكر والدعاء ومدّ يد المحبة للخالق سبحانه مصدر عظيم للطاقة النقية التي حين تغمر الإنسان تفتح له بيسر مسارات طاقاته الكامنة، لتنساب سلسة تغمر الذات وتصل لكل ما يحيط به وهي حين تلامس انسياب طاقة العالم من حوله تكون الروائع التي تلامس السماء إبداعا وعبقرية وصلاحا وإصلاحا ونقاء وعملا وفعلا وفهما وقولا…
حين تربط هذا بالإبداع ونظمه والعلم وما يفيده من تآلفه مع طاقة الإبداع ونورانية الايمان، فإنك تلامس جوهر التحرر الانسيابي للطاقة الكامنة….
أتراني عقدت عليك المسألة؟
العباقرة الذين نفعوا الإنسانية، المبدعون الذين أبهروا البشرية، هؤلاء الذين سجل التاريخ أسماءهم بأحرف من عبق الحنين وتوّجهم بالمجد، كانوا مثل كل البشر، يأكلون، وينامون، ويتألمون، كانوا يموتون أيضا وقد يمنحون من العمر القليل فقط، لكنهم، على عكس سواهم، تحررت طاقاتهم الكامنة، وانسابت بلطف وعنفوان، فشغّلت قدراتهم الابداعية، امتزجت بعقولهم وقلوبهم وتركيبتهم الحية، أمر تم في نظري بطريقتين ونظامين، لكل نظام سره وسببه وتمظهراته وخصائصه: التحرر الإنسيابي الجيني، والتحرر الإنسيابي التأملي.